الجمعة، 15 مايو 2009

11- حل المشاكل الاقتصادية:

11 - حل المشاكل الاقتصادية:-
ان التعاليم البهائية تدعو الى تنظيم الحياة الاقتصادية واصلاحها بشكل يؤمن رفاه الجميع واستقرار شؤونهم المادية بحيث لا يبقى مجال للمنازعات والحروب المثارة من جراء اختلال الميزان الاقتصادي في العالم وارتباك الوضع الدولي الناتج عن ذلك من حين لآخر.
فيقول عبدالبهاء (مترجما):-
"ان تنظيم الأحوال العامة يجب أن يتم بطريقة توجب محو الفقر فيكون لكل فرد على قدر المستطاع نصيبه في الحياة والتمتع على قدر رتبته فلا نعود نرى أشخاصا مثقلين مزودين بالأموال بينما الآخرين يموتون من العدم والجوع او أشخاصا يملكون القصور الفخمة العديدة وآخرين لا يملكون ما يضعون عليه رؤوسهم لأن مثل هذه الحالة غير مرضية ويجب اصلاحها. ولكن يلزمنا الاحتراس في اصلاحها لأنها لا يمكن اصلاحها بالمساواة التامة بين الناس، فالمساواة وهمٌ باطل لا يمكن تحقيقه عمليا، ولو أمكن تحقيقها يوما ما فانه لا يمكن دوامها ولو فرض ايجادها فان نظام العالم كله يفسد. فلا بد من حصول التفاوت في العالم البشري وعلى هذا النظام خلق الله البشر، فالانسانية كالجيش العظيم يحتاج الى قائد وضباط بدرجاتهم المختلفة وكذلك الى عسكر، وكل فرد منهم عليه واجبات معينة، فالدرجات ضرورية لتحقيق النظام والترتيب، فلا يكون الجيش كله قوادا او ضباطا او يكون كله عسكراً بدون رؤساء. والآن بعض الناس أغنياء بغنى مفرط والبعض فقراء بفقر مدقع فلا بد من عمل نظام لضبط وتحسين الاحوال، فمن الامور المهمة تحديد درجة الغنى، وكذلك تحديد درجة الفقر.. فاذا رأينا ان الفقر قد وصل الى درجة الموت فان ذلك علامة حقة على وجود الظلم والاعتساف، فيجب على كل فرد ان يهتم بهذا الامر، وان لا يتوانى في السعي في تغيير الانظمة التي تؤول بأغلب الناس الى الفقر المدقع فيلزم تقنين القوانين الخاصة للبحث في الفقر والغنى المفرطين". (من خطب عبدالبهاء في باريس)
ان من أهم الخطوط الأساسية التي وضعتها التعاليم البهائية لحل هذه المشكلة التي باتت تهدد سلامة العالم وأمنه وراحته ولمعالجة مضاعفاتها ومشقاتها الجمة في هذا العصر الذري هي:
أ - مسألة الزارع والفلاح:
لا تعتبر المشكلة الاقتصادية في نظر الدين البهائي محلولة الا اذا عولجت مشكلة الزارع والفلاح أولا.
والفلاح في الحقيقة أول عامل في الهيئة الاجتماعية، ويربو عدد الفلاحين على عدد أي طبقة من طبقات العمال ولهذا فمن اللياقة البدء بحل هذه المشكلة اعتبارا من هذه الطبقة الكثيرة العدد والمجهولة القدر.
وعلى هذا الأساس تقترح البهائية أن يؤسس في كل قرية من القرى لجنة ينتخب أعضاؤها من بين الأفراد المعروفين برجاحة العقل وحسن التدبير وان تكون القرية تحت ادارتهم كما يؤسس لهذه القرية مخزن عمومي ويعين له كاتب.
ب - فريضة العمل والاحتراف على كل فرد عدا العجزة والمسنين، وتحريم البطالة والكسالة والتسول على اختلاف أنواعه ووجوب تعلم الصناعة والفنون والحرف الى جانب العلوم النظرية والآداب والفنون الأخرى حتى لا يبقى في المجتمع الإنساني أشخاص عاطلون يأكلون من تعب غيرهم وبهذا الصدد يتفضل بهاءالله قائلا:-
"قد وجب على كل واحد منكم الاشتغال بأمر من الأمور من الصنائع والاقتراف وأمثالها. وجعلنا اشتغالكم بها نفس العبادة لله الحق، تفكروا يا قوم في رحمة الله وألطافه، ثم اشكروه في العشي والاشراق. لا تضيعوا أوقاتكم بالبطالة والكسالة واشتغلوا بما ينتفع به أنفسكم وأنفس غيركم... أبغض الناس عند الله من يقعد ويطلب، تمسكوا بحبل الأسباب متوكلين على الله مسبب الأسباب". (كتاب الأقدس)
فكم من القوى تضيع الآن في العالم بسبب السعي في افساد عمل العاملين كالمجادلة والمزاحمة بالباطل وغير ذلك من الطرق المتشعبة الضارة، ولو كان الناس يشتغلون بعقولهم وأبدانهم بطريقة نافعة للجنس البشري كما يأمر بهاءالله لحصلوا على كل ما يلزمهم من الصحة والراحة والسعادة في الحياة وسلموا من خطر المجاعة وأضرار انتشار الأمراض والأوبئة وخلصوا من آلام الاحتياج واستعباد الصناع والأعمال الشاقة المهلكة للصحة والمنهكة للقوى والأبدان.
ج - ربح النقود (الفائض) - أباحت التعاليم البهائية تعاطي ربح النقود في المعاملات وذلك بالنظر لتطور الحياة الاقتصادية في العصر الحاضر واشتباك المصالح التجارية وتبادل المنافع بين الأفراد والشعوب وضرورة اعتماد هذه الوسيلة لتسهيل ذلك وترويجه، وتركت تحديد نسبته الى بيت العدل وأوصت بالعدل والانصاف في اجراء هذا الحكم.
ويقول بهاءالله بهذا الصدد:-
"يرى أكثر الناس محتاجا الى هذه الفقرة اذ لو لم يكن ربح متداول معمول به بين الناس تتعطل وتتعوق الأمور. وقلما يوجد من يوفق بمراعاة أبناء جنسه وأبناء وطنه وإخوانه ويقرضهم قرضا حسنا، لذا فضلاً على العباد قررنا الربح كسائر المعاملات المتداولة بين الناس... ولكن يجب أن يكون الأمر بالاعتدال والانصاف ".
(ترجمة لوح الاشراقات ص 31)
د - في منع استعباد العمال - يمنع بهاءالله الاسترقاق. وقد بين عبدالبهاء ان هذا المنع لا يتناول الرق الشخصي فقط بل يشمل الرق الصناعي. وقد تفضل بسياق خطاب له في عام 1912 عندما كان في الولايات المتحدة: "انكم عملتم عملا صالحا مجيدا فيما بين سنة 1860 وسنة 1865 فإنكم منعتم الرق والاستعباد الزراعي. ولكنكم الآن يجب عليكم أن تعملوا ما هو أعظم وأعجب فتمنعوا الرق الصناعي، فان حل المشاكل الاقتصادية لا يمكن تحقيقه بواسطة مقاومة رأس المال ضد العمل، والعمل ضد رأس المال ولكنه يأتي بواسطة حسن التفاهم بين الجانبين".
فبواسطة الاتفاق والعمل المشترك واقتسام الارباح يمكن حفظ كل من رأس المال والعمل وخدمة الاثنين.
وبموجب التعاليم البهائية يجب أن لا يقتصر الأمر فقط على دفع أجور للعمال وحسب، بل يجب أن يصبح العمال شركاء في العمل الذي يقومون به أي ان يتقاضى العامل علاوة على أجره المعتاد، ربحا معينا يدفع له من مجموع أرباح المعمل كما لو كان شريكا به حتى لا يأل العمال جهدا في العمل للمصلحة وتزول أسباب المنازعة وينعدم الإضراب الضار بمصالح الطرفين.
هـ - في تقسيم التركة والميراث - أخذت بعض الدول المتحررة والأمم المتمدنة مؤخراَ في سن القوانين الخاصة بمسألة تقسيم التركات المهمة وتوزيع الميراث الوفير باسلوب جديد متوخية في ذلك المصلحة العامة ومنافع الجمهور.
فبواسطة فرض ضرائب معينة على التركة تستوفي الخزينة العمومية حصة وافرة من كل تركة وبهذه النسبة تقل حصص المنتفعين المعنيين وهم قلة بينما ينتفع جمهور الناس وعامة الخلق بما تستوفيه الحكومة من تلك التركات.
وقد عالجت التعاليم البهائية هذه المسألة معالجة حكيمة في تعاليمها اذ نصت على وجوب تقسيم الإرث على طبقات متعددة وخص بيت المال بنصيب لا بأس به منه كما أدخل المعلم ضمن الوارثين وعيّن له حصة مفروضة في كل تركة اعزازاً لشأنه وتكريماً لخدمته وتضحيته في سبيل القيام بواجبه المقدس ألا وهو تربية النشء وتعليمه، الأمر الذي عليه مدار إصلاح الأمة وحياة المجموع بأسره....
واذا أمعن المرء النظر في حكمة هذه الأحكام وجد ان مثل هذا التقسيم العادل يحول دون تكدس الثروة بيد أناس معدودين واحتكارها من قبل فئة قليلة، ففي الوقت الذي ينال بيت المال مقادير محترمة من كل تركة ينفقها على المشاريع الخيرية العامة يحصل عدد كبير من أقرباء المتوفى على حصص لا بأس بها ولولا ذلك كان الميراث من نصيب وارث او وارثين فقط.
فاذا اتبعت هذه التعليمات وطبقت فلا شك انه سوف لا يبقى في الهيئة الاجتماعية فقير معدم او يتيم مشرد او مقعد يستعطي معيشته او سواهم من المحتاجين الذين يعج بهم مجتمعنا الحالي، وكل فرد سيعيش في غاية الراحة والاطمئنان مع حفظ المراتب والمقامات التي هي ضرورة اجتماعية للمحافظة على نظام المجتمع الذي هو في الحقيقة كالجيش يحتاج من قائد عام الى أصغر جندي والا فالنظام يختل.
ومن الجهة الاخرى فسوف لا تتكدس الثروات بأيد محدودة في كل مجتمع بينما الأغلبية من الناس في فقر مدقع وحال تعيس.
أما عن الثروات الطبيعية من المواد الخام والمعادن وأمثالها فالبهائية ترى وجوب ادارتها والسيطرة عليها وتوزيعها توزيعا عادلا بين مختلف أمم العالم وشعوبه حسب الحاجة والضرورة من قبل هيئة عالمية ذات صلاحيات كافية لكي لا تحتكر هذه الثروات الطبيعية الهائلة من جانب حكومات معينة ويحرم سائر الأمم والشعوب من الانتفاع بخيراتها. فيجب ان يكون هناك نوع من السيطرة العالمية والادارة الأممية لتحقيق توزيع الثروات الطبيعية في العالم توزيعا عادلا لا غبن فيه لأحد.
وكذلك الحال في المسائل المتعلقة بالاقتصاد العالمي كالعملة مثلا فالبهائية تقترح الاتفاق على عملة عالمية موحدّة يكون استعمالها من قبل الجميع داعيا لتوفير الكثير من الوقت والأتعاب وتلافي خسارات جسيمة تتأتى من جراء تحويل الأنواع المختلفة من العُمل العالمية ذات المعايير والمقاييس المختلفة لدى الشعوب والأمم في وقتنا الحاضر. وكذلك الاتفاق على مقاييس وأوزان وأكيال عالمية مقررة تستعمل في التبادل الاقتصادي والتجاري بين جميع الشعوب والأمم على حد سواء وهذه الوسائط كلها مما تسهل التبادل التجاري والمقايضة بين أمم العالم ويقضي على مصادر كثيرة التعقيد وسوء التفاهم بينهم ويذلل الكثير من الصعاب القائمة اليوم أمام التجارة العالمية، وبالتالي تؤدي الى ازدهار التجارة والاقتصاد العالمي ورفاه الشعوب والأفراد على حد سواء.
وتلتزم البهائية جانب الاعتدال في تحقيق حل المشكلة الاقتصادية ومعالجة اختلال الميزان الاقتصادي العالمي، فهي لا تقر مبدأ القوة واستعماله لنزع ثروات الأغنياء او اجراء المساواة التامة بين العموم في الامور الاقتصادية، اذ ان المساواة أمر لا يمكن تحقيقه في عالم الطبيعة نظراً للتفاوت الطبيعي القائم بين الخلق في القابليات والاستعدادات الذاتية كالتفاوت الموجود في الصور والأشكال الظاهرية، ولكن من المحقق انه باستعمال الحكمة واتباع الانصاف إزاء هذه الكيفية يمكن التوصل الى حل مرض جدا للطبقات العامة ولأصحاب رؤوس الأموال الذين سوف لا يتمكنون من جمع ثروات عظيمة من عمل العمال وتعبهم فيما لو تم الاتفاق بين الطرفين على اقتسام الارباح التي يدرها العمل بصورة تكفل حقوق كل من العامل وصاحب المال وهذا لا يتم الا بواسطة قيام الحكومات بسن القوانين اللازمة ضمن دائرة المنطق والانصاف بحيث يمكن القضاء على الغنى المفرط والفقر المدقع في كل مجتمع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق